- الفقه الإسلامي / ٠5العبادات الشعائرية
- /
- ٠5الحج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
سنن الحج :
1 ـ الاغتسال عند الإحرام :
أيها الأخوةُ المؤمنون ؛ لا زلنا مع دروس الحجِّ، و قد تحدَّثتُ بفضل الله و توفيقه في الدروس السابقة عن أركان الحج وواجباته، و بقيَ علينا السُّنن. نن الحج:
فالسُّننُ كثيرةٌ، منها الاغتسالُ عند الإحرام، ولو لحائضٍ أو نفساء، مع آداب الاغتسال، ومن آداب الاغتسال تقليم الأظافر، وتقليمُ شعر الشارب، ونتفُ الإبط، وحلقُ العانة، وما شاكل ذلك، وإن لم يغتسل المُحرِمُ فعليه أن يتوضَّأ إذا أراد الإحرامَ، و على الرَّجُل أن يلبس الإزارَ و الرَّداءَ، و يُندَب أن يكونا جديدين أبيضين، أوغسيليْن، فإن لم يكونا جديدين أبيضين فينبغي أن يكونا غسيلين أبيضين، أي مغسولين غسيلاً جيِّدًا، و يُندَب التَّطيُّبُ قبله، باستعمال الطِّيب، و يُسنُّ للرجل و المرأة صلاة ركعتين بعد الإحرام، و الإكثارُ من التَّلبيةِ، لبَّيك اللهمَّ لبَّيك بعد الإحرام.
2 ـ طواف القدوم :
ومن سنن الحجِّ طوافُ القدوم، فطوافُ القدوم سنَّة، و طوافُ الإفاضة فرضٌ، وطواف الوداع واجبٌ، على كلِّ الحجَّاج أم على الآفاقيين؟ على الآفاقيين، والإكثارُ من الصلاة على النبيِّ صلى اللهُ عليه و سلم.
3 ـ استلام الحجر الأسود :
ومن سنن الحجِّ استلامُ الحجر الأسود، الاستلامُ إمَّا أن تقبّله، وإمَّا أن تستلمه بيديك، ثلاثُ حالات؛إما أن تقبِّله، وإما أن تستلمه بيديك وتقبِّل يديك، وإما أن تشير إليه.
4 ـ الاضطباع في جميع الأشواط للرجل فقط :
ومن سنن الحج الاِضْطِباعُ في جميع الأشواط للرجل فقط في كلِّ طوافٍ بعده سعيٌ، كلُّ طواف بعده سعيٌ لا بدَّ من أن تضطبِعَ، أي أن تكشف كتِفَك الأيمنَ، و تضع الرداءَ تحت الإبط الأيمنِ، وتلقيه على الكتف الأيسر، هذا هو الاضطباعُ في الطَّواف الذي بعده سعيٌ.
5 ـ الرّمل :
ويُسنُّ أيضًا الرَّمَلُ، أي الهَرْوَلةُ في الأشواط الثلاث الأولى، أو من طواف الفرض أي طواف الرُّكن يُسنُّ أن تهرْوِل و لو لم يكن بعد هذا الطواف سعيٌ.
6 ـ الهرولةُ بين المِيليْن الأخضرين للرجل فيما بين الصَّفا و المروة :
ويُسن أيضاً الهرولةُ بين المِيليْن الأخضرين للرجل فيما بين الصَّفا و المروة، في كلِّ شوط من أشواط السعي، و يسنُّ أن يمشيَ الساعي في باقي الأشواط.
7 ـ الإكثار من الطواف للآفاقي :
و يسن الإكثارُ من الطَّواف للآفاقي، أي إنَّ بيتَ اللهِ الحرام تحيَّتُه الطواف، بينما أيُّ مسجد آخر تحيَّته صلاة ركعتين.
8 ـ الخروجُ من مكةَ إلى منى بعد طلوع شمس اليوم الثّامن من ذي الحجة :
و يسنُّ أيضاً الخروجُ من مكةَ إلى منى بعد طلوع شمس اليوم الثّامن من ذي الحجة، لأن المبيتَ بمنى يوم الثامن من ذي الحجة لليوم التّاسع هذه سنَّة، لذلك حجَّاجٌ كثيرون يتوجَّهون من مكةَ إلى عرفاتٍ مباشرة، ولا شيءَ عليهم، لكنَّ السُّنة أن يبيت الحاحُّ في منى، و أن يصلِّيَ فيها خمسَ صلواتٍ ؛ الظهر و العصر و المغرب و العشاء من اليوم الثامن، والفجر في اليوم التَّاسع، وبعدها يتوجَّه إلى عرفات، و من السُّنة أيضا المبيتُ بمنى في أيام الرجْم، فعند السَّادة الأحناف المبيتُ بمنى سنَّةٌ، فمن تركها فلا شيءَ عليه، لكنَّه عند السادة الشافعية المبيت بمنى واجب، فمن ترك المبيتَ بمنى فعليه دمٌ.
9 ـ الخروج من منى بعد طلوع شمس اليوم التاسع إلى عرفات و الدعوة بالأذكار:
ومن السنة أيضا الخروج من منى بعد طلوع شمس اليوم التاسع إلى عرفات، و الأذكارُ في مواضعها، فيُسنّ أن تدعوَ بالأذكارِ التي أُثِرت عن النبي عليه الصلاة و السلام في مواضعها.
10 ـ دخول الكعبة :
و من السُّنة أن تدخل الكعبة، وهذا ليس مُتاحا الآن، لكنَّ العلماءَ قالوا: أن تصليَ ركعتين في حِجْر إسماعيلفهذه تُجزئ عن دخول الكعبة، لأن ما بين الكعبة والحِجر هو مِن الكعبة، لذلك لا يجوز الطوافُ فيما بين الكعبة و بين حِجر إسماعيل، الطوافُ يُعدُّ باطلاً، لأن ما بين الكعبة و الحجر من الكعبة نفسها، فمن صلّى في هذا المكان ركعتين فكأنما صلَّى في الكعبة و دخلها.
11 ـ المحافظة على الطهارة في كلِّ مناسك الحج :
ومن السنة أيضا المحافظة على الطهارة في كلِّ مناسك الحج، و المحافظة على صون اللسان من المباح، أي الحديث عن الدنيا، وعن أسعار العملات، وعن أسعار الحاجيات، وأن هذه المسجِّلة لا يوجد منها في الشام، و ما أجملها، هذا الحديث عن الحاجات و البضائع و الانهماك فيها ليس من السنة.
12 ـ صون اللسان عن المكروه :
ومن السنة أن تصون لسانَك عن المكروه، أما صونُ اللسان عن المكروه تحريمًا فواجبٌ، أي إذا تحدَّث الإنسانُ عن النساء، أو تحدَّث عن مقدِّمات الجماع فعليه دمٌ، لأن الحديث عن هذا الموضوع خرقٌ لمحظورات الإحرام، أما تنزيه اللسان عن المكروه تحريماً فواجبٌ، و إنما تنزيه اللسان عن المكروه تنزيهاً سنَّةٌ.
13 ـ المبيتُ بمزدلفة ليلة النحر :
المبيتُ بمزدلفة ليلة النحر وهذا من السنة أيضاً، ولكنَّ النبيَّ عليه الصلاة و السلام أجاز للنساء والضَّعفة أن ينطلقوا إلى رمي الجمرة الكبرى بعد منتصف الليل، و أن ينطلقوا إلى طواف الركن قبل الفجر، أي إذا كان أخٌ حاجٌّ ومعه نساءٌ فالأولى أن ينطلق بهن من مزدلفة بعد منتصف الليل ليتَّقيَ بهذا الوقت الازدحامَ الشديد الذي لا يرضي اللهَ عز وجل، كأن تكون المرأةُ بين الرجال صدرًا لظهر، وكتفًا بكتف.
14 ـ رمي جمرة العقبة الكبرى :
و من السنة أيضا أن يكون الرميُ في اليوم الأول ما بين طلوع الشمس و زوالها من يوم النحر، إلا إذا خاف شدَّةَ الزِّحام، و فيما بين الزوال و غروب الشمس في باقي الأيام، ثلاث مرات، هناك رميُ جمرة العقبة الكبرى، هذه تُسنُّ فيما بين طلوع الشمس وبين الزَّوال من أول أيام النحر، وأما باقي أيام الرجم فتُسنُّ من بعد الزوال إلى الغروب، لكنْ من كان معه نساءٌ يجوز أن يرميَ بعد منتصف الليل.
15 ـ تقديم الحاجّ المفرِد هديًا :
ومن السنة أيضاً أن يقدِّم الحاجُّ المفرِدُ هديًا، والهديُ على المتمتِّع واجبٌ، وهو هديُ جبْر، والهديُ على القارن واجب، وهو هدي شكر، لكنَّ الهدي على المفرِد سنة، فمن تركه فلا شيء عليه، و من السنة أيضاً أن تأكل من الهدي، ولك أن تأكل أيضًا من هدي القران و التَّمتُّع أما هديُ الجنايات فلا يُؤكَل منه، فإذا ارتكب الإنسانُ جناية و لزِمه هديٌ، فلا ينبغي أن يأكل منه الحاجُّ.
16 ـ الشرب من ماء زمزم :
ومن السنن الشُّربُ من ماء زمزم، و المبالغة فيه، أي التَّضلُّع، وهو الارتواءُ و الامتلاء، و ليس مصَّةبل يجب أن تشرب من هذا الماء وأن ترتويَ منه، وهذا هو التَّضلُّع.
17 ـ التِزامُ المُلتَزَم :
ومن السنة أيضا التِزامُ المُلتَزَم، وهو ما بين الحجر الأسود و باب الكعبة، و قد أُثِر عن النبيِّ صلى اللهُ عليه و سلم أنه: " ما من مسلم يقف في هذا الملتزم فيسأل الله حاجةً من حاجات الدنيا و الآخرة إلا أعطاه اللهُ إيَّاها".
18 ـ التَّشَبُّث بأستار الكعبة :
ومن السنة أيضا التَّشَبُّث بأستار الكعبة، أي أن تمسك بأستار الكعبة كالمتضرِّع المستجير، الملتجئ المستغيث بالله عز وجل.
19 ـ رفع الصوت بالتلبية :
ومن السنة أيضاً رفع الصوت بالتلبية، بما لا يضرُّ النفسَ، ولا يؤذي الناسَ لغير المرأة، لأن رفعَ صوتها قد يؤدِّي إلى الفتنة، و نساءٌ كثيراتٌ في الحجِّ لا ينتبهن إلى هذه الحقيقة يرفعن أصواتهن بالدُّعاء و التلبية، و أصواتهن عورة، و في هذا إيذاءٌ للحجَّاج.
20 ـ الاغتسال لدخول مكة المكرمة ومزدلفة :
ومن السنة أيضاً الاغتسال لدخول مكة المكرمة ومزدلفة، لمن نزل بهما من الحجَّاج.
21 ـ الجمع بين صلاتي الظهر و العصر جمع تقديم بعرفة مطلقاً :
و من السنة الجمع بين صلاتيْ الظهر و العصر جمع تقديم بعرفة مطلقاً، كما هو عند أبي يوسف ومحمد.
22 ـ الصلاة في عرفة وراء أمير الحج :
ومن السنة أن تصلِّي في عرفة وراءَ أمير الحجِّ، كما هو عند أبي حنيفة، لا أن تصلِّي مفرَدًا .
23 ـ الإكثارُ من الدعاء عند جبل الرحمة :
ومن السنة الإكثارُ من الدعاء عند جبل الرحمة، عند الصخَرات المفروشات، مكان وقوف النبيِّ عليه الصلاة والسلامفإن هذا اليوم يومٌ عظيمٌ، والدعاءُ فيه جديرٌ بالإجابة بفضل الله تعالى.
24 ـ أن يكون طوافُ الإفاضة في اليوم الأول من أيام النحر :
و من السنة أن يكون طوافُ الإفاضة في اليوم الأول من أيام النحر، تلك هي الفرائض، وبعدها الواجبات، وبعدها السُّننُ، من لم يأت بالأركان المفروضة بطُل حجُّه، عليه أن يحجَّ في العام القادم، لقول الله تعالى:
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾
ومن وقع في مخالفة بعض الواجبات لزمه دمٌ، و من ترك السنة فلا شيءَ عليه، لكنه أساءَ، إلا إذا كان في تركها ترخيص من النبيِّ عليه الصلاة والسلام في بعض الحالات الخاصة فيكون تركُها في هذا الموطن أولى من الأخذ بها، كَمَنْ معه نساءٌ، فإذا أخذ بالرخصة فربما كان هذا أيسر لحجِّه وحجِّهن.
أحكام المرأة المتعلِّقة بالحج :
وهنا موضوعٌ قصيرٌ متعلِّق بهذا الموضوع الكبير، وهو الأحكام الخاصَّة بالنساء، كنتُ أرى في الحجِّ في العام الماضي النساءَ يُهَرْوِلْن، هذا مخالفٌ للسنة، فالمرأة لها أحكامٌ خاصَّة، فالمرأة كالرجل في أعمال الحج و لا تخالفه إلا في أشياء قليلة، ترجع إلى تحقيق الفرق الخِلْقي، أي الطبيعي، بين الرجل و المرأة، لقوله تعالى:
﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾
فإذا قلنا للرجل: اِلبِسْ ثيابَ الإحرام، ثوبان أو رداءان، رداءٌ و إزارٌ غير مخيطين فهذا لا ينبغي للمرأة، وإذا قلنا للرجل: هَروِل، هذا لا ينبغي للمرأة، فالمرأة لا تتطيَّب عند الإحرام، لأن تطيُّبها حين يجد الرجالُ ريحَها محظور، إذًا يُلغَى من السنن التي على الرجل الطِّيبُ للنساء، و المرأة لا ينبغي أن ترتديَ ثياب غيرَ مخيطة، لأن هذه الثيابَ قد تكشف بعض مفاتنها، لذلك لا تلبس المرأةُ ثيابًا معيَّنة للإحرام، و إنما إحرامُها أن ترتديَ ثيابًا مخيطة، وكلّما بالغت المرأةُ في ارتداء ثيابٍ فضفاضةٍ ومزدوجة، كان هذا أبلغَ في ورعها، وأقربَ إلى ربها، وهذا مما يليق بالمرأة المسلمة إذا ذهبت إلى الحج، لا أن تكون مصدرَ فتنة و إيذاءٍ للحجَّاج. قال العلماءُ: و المستحبُّ أن تُسْدِل المرأة على وجهها شيئًا، أي نِقابًا و تجافيه عنه، لذلك بعضُ الأخوات المؤمنات يضعن على رؤوسهن واقيةً، فإذا أسدلن الحجابَ على وجوههن كان بعيدًا بحيث تطبِّقْن بهذا السنةَ، و الدليلُ ما فعلته السيِّدةُ عائشةُ رضي اللهُ عنها، و ما فعلته نساءُ النبيِّ عليه الصلاة
((عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٌ فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ ))
و هو حديث صحيح، والعلماءُ قالوا: يُستحبُ للمرأة أن تسدل على وجهها شيئًا تجافيه عنه، وقد دلَّت المسألةُ وهذا الحديثُ على أن المرأة منهية على إبداء وجهها للأجانب بلا ضرورة، أي إذا قلنا: إن المرأةَ يجب أن تصلّيَ مكشوفة الوجه، ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أنه يجب أن تصلِّي في مكان ليس فيه رجالٌ أجانب، فكشفُ الوجه في الصلاة لا يعني أن الوجه يُباح أن يظهر مطلقًا. ولا ترفع المرأةُ صوتها بالتلبية، لما في رفع صوتها من خوف الفتنة، و لذا لا يجوز للمرأة أن تؤَذِّن للصلاة كما تقدَّم، فإذا كانت المرأةُ لا يجوز أن تؤذِّن، فكيف إذا غنَّت؟! وإذا كان لا يجوز أن يستمع الرجل إلى صوت المرأة و هي تسبِّح اللهَ و تكبِّره، فكيف إذا استمع إليها و هي تغنِّي؟! ولا تضطبع المراةُ أبدًا، ولا ترمُل في طوافها، ولو كان المطافُ خاليًا، فالرجلُ أحيانا ليس في إمكانه أن يرملَ للازدحام الشديد، ولا يستطيع أن يطوف طواف الإفاضة فمستحيل على المرأة أن ترملَ، و لو أن الحرمَ خالٍ لا يجوز للمرأة أن ترمل في طوافها، ولا في سعيها، و أكثرُ الملاحظات التي ألاحظها في السعي بين الصفا و المروة أنّ الرجل يمشي مع زوجته، فلمَّا وصلا إلى الميلين الأخضرين هرولا جميعا، أين تهروِل معك؟ هذه امرأتك يجب أن تسير على هِناتها، وأن تسبقها أنت في ما بين الميلين الأخضرين حتى تلحق بك أما أن تهرول معك فهذا مخالفٌ للسنة، و قد قال عليه الصلاة و السلام: "تفقَّهوا قبل أن تحجوا".
ولا تقبِّل المرأةُ الحجر الأسودَ إن كان ثمة زحام، وأحياناً تدخل المرأةُ بين الرجال من أجل تقبيل الحجر الأسود، فتخرج من بينهم ولا شيءَ على رأسها، أين الفقه؟ فلا ينبغي للمرأة أن تقبِّل الحجرَ الأسودَ إن كان ثمةَ زحامٌ، و لا تكلِّف نفسَها استلامَه، ولا تصلِّي في أثناء الزحام خلف مقام إبراهيم، بل عليها أن تصلي في أيِّ مكان آخر، على أن يكون خلفها جدارٌ أو عمودٌ، أو ساريةٌ، أما أن تصلي خلف مقام إبراهيم، والزحام على أشُدِّه، فليس هذا من الفقه في شيء.
وفي الجملة اختلاطُ المرأة بالرجل حرام، ولاسيما في الحج، لأن هذا مبعثٌ للفتنة وعلى المرأة أن تتحيَّن أوقاتَ خفَّة الزحام لطوافها، تنتقي الفجر، قُبيل الفجر بساعتين، أو الساعة الثانية، أو منتصف الليل، أو الساعة الثالثة بعد الظهر، عليها أن تنتقيَ وقتًا يقلُّ فيه الزحامُ لئلَّا تؤذِي وتُؤذَى، كما كانت تفعل السيدةُ عائشة رضي اللهُ عنها.
و يُسنُّ للمرأة أن تجعل طوافها بعيداً عن الكعبة المعظَّمة، لأن القربَ من الكعبة مظنَّةُ ازدحامٍ، تحرُّزا من الازدحام مع الرجال، و لا تهرول بين الميلين الأخضرين في السعي بين الصفا والمروة، و لو كان المسعى خاليًا، ويجوز لها تركُ المبيت في مزدلفة، لأنها امرأة، و من أجل أن يُيَسَّر لها رميُ الجمار في وقتٍ غيرِ مزدحمٍ، و يجوز لها تركُ الوقوف عند المشعر الحرام لأنوثتها، فقد قدَّم النبيُّ عليه الصلاة و السلام بين يديه النساءَ و الضَّعفةَ من أهله، حيث ذهبوا إلى منى و لم يبيتوا بمزدلفةَ، هكذا الفقهُ، فإذا كانت معك زوجتُك افعلْ هكذا. و الأفضلُ في حقها تأخيرُ الرمي يوم النحر إلى ما بعد الزوال، لتنافي شدَّة الازدحام و لو في آخر النهار خوفاً عليها و سترًا لها.
والفرقُ الدقيق بين المرأة والرجل في شؤون الحج الاستطاعةُ، فلا فرقَ في وجوه الاستطاعة بين الرجل والمرأة إلا في ثلاثة أمور؛ الأول: أن يرافقها في سفرها زوجُها، أو أحدُ محارمها، و هو ممن لا يجوز له أن ينكحها أبدًا، فزوجُ أختها يجوز له أن ينكحها إذا ماتت أختُها، ويجوز له أن ينكحها إذا طُلِّقت أختُها، إذًا هذا ليس بمحرمٍ، فلا ينبغي إلا أن يكون المَحرمُ مُحَرَّمًا لها على التأبيد، ومع ذلك يجب أن يكون مأمونًا بالغاً عاقلاً غيرَ فاسق، لو أن لها أخاً فاسقاً لا يجوز أن يكون مَحرماً، قد تكون الأختُ موسِرةً و كلَّفت أخاها، و دينه رقيق، أن يذهب معها كمَحرم، هذا قد يؤذي الحُجَّاج، و قد لا يهتم بصونها، لذلك فضلاً عن أنه يجب أن يكون زوجاً أو محرماً على التأبيد، يجب أن يكون هذا المحرمُ بالغاً عاقلاً غيرَ فاسق، و لا فرق في هذا بين العجوز و الشاب، تقول العجوز: أنا ما بقيَ لي شيءٌ يلفت النظر، من قال لكِ ذلك قد تجدين شيخًا عجوزًا تلفتين نظرَه، و لا فرق في هذا بين العجوز و الشاب، فيُكرَه تحريماً على المرأة أن تحُجَّ بغير مَحرم و إن لم تجد المرأةُ زوجًا أو مَحرمًا فهي في نظر الشرع غير مستطيعة، فاستطاعةُ الرجل بتوافر المال؛ الراحلة و الزاد و المال و الصحَّة، واستطاعة المرأة بتوافر المال و الزاد و الراحلة و الصحَّة و المَحرم، فالمرأةُ التي لا مَحرمَ لها لا حجّ عليها.
ويجب أن تكون المرأةُ غيرَ معتدَّةٍ بأيَّة عِدَّةٍ كانت، من طلاق أو وفاة، فإن حجَّتْ في العدَّة كانت عاصيةً آثمةً، قال: المعتدَّة في عدَّة طلاق أو وفاة لا حجَّ عليها، ويجب أن تكون قادرةً على نفقتها ونفقة المحرم، لأنها من مُؤَنِ حجِّها، فإذا كلَّفت أخاها أن يذهب معها، و كان رقيق الحال يجب أن تنفق عليه، أما إذا كلَّفت زوجَها أن يحجَّ معها على أنه محرمٌ لها، فعليها أن تنفق عليه نفقات الحجِّ، أما نفقاتُ الطعام والشراب التي عليه في الإقامة فتبقى عليه في الحجِّ هكذا العدلُ، أمَّا أن تكلّفه أن يدفع بطاقة الطائرة، عشرة آلاف، فهذه عليها إذا أرادت أن تحُجَّ ومعها زوجُها.
إنّ حيْضُ المرأة أو نفاسُها لا يمنع شيئاً من أعمال الحج، إلا الطواف، فقد تكون حائضاً وتذهب إلى عرفات، فلا يمنع الحيض والنفاس شيئاً من أعمال الحجِّ، تُحرِم وهي حائضٌ، تُلبِّي و هي حائضٌ، إلا الطواف و دخول المسجد الحرام، فإن طافت و هي حائض أو نفساءُ صحَّ طوافُها عند الحنفية و عليها بُدْنة، حوالي أربعين إلى خمسين ألف ليرة، البدنة جملٌ، و إن أخَّرت الطوافَ حتى تطهر فلا يلزمها شيءٌ، وهذا في طواف الركن، حتى تطهر فلا يلزمها شيءٌ، أما الإمام الشافعي رضي اللهُ عنه فيقول: لا يصحُّ الطوافُ من الحائض و النفساء .
(( عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ فَلَمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمِثْتُ فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قُلْتُ لَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنِّي لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ؟ قَالَ: لَعَلَّكِ نُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكِ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي ))
من أحكام المرأة أنه إذا أخذ أهلُها أو محرمُها أو زوجُها في الرَّحيلِ و هي حائضٌ أو نفساءُ سقط عنها طوافُ الوداع، و لا يلزمها شيءٌ، لكنَّ العلماءُ قالوا: يُستحبُّ لها أن تقف بباب الحرم و تدعو قبل أن تغادر هذه البلاد. ويسن لها تقصيرُ الشَّعر، فقط فقد روى ابنُ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنه عن رسول الله صلى اللهُ عليه و سلم أنه قال: "ليس على النساء حلْقٌ إنما على النساء تقصير " وهذا رحمةً بهن.
هذه أحكام المرأة المتعلِّقة بالحج، و قد أنهينا الفروض و الواجبات و السُّنن و الأحكام المتعلِقة بالمرأة.
* * *
صفات أبي حنيفة النعمان :
والآن نشدُّ رحالنا إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، لقد كان أبو حنيفةَ رحمه الله تعالى طيِّبَ المعاشرة .
(( وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال:َ الْمُؤْمِنُ مُؤْلَفٌ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ ))
كان طيِّب المعاشرة، حُلوَ المؤانسة، يسعد به جليسُه، و لا يشقى به من غاب عنه ولو كان عدوًّا له، حتى قال أحدُ أصحابه: سمعتُ عبدَ الله بن المبارك يقول لسفيان الثوري: يا أبا عبد الله ما أبعد أبو حنيفةَ عن الغيبةِ؟ فإني ما سمعتُه يذكر عدوًّا له بسوءٍ قط، فقال له سفيانُ: يا أبا عبد الله إن أبا حنيفةَ أعقل مِن أن يسلِّط على حسناته ما يذهبُ بها.
وكان أبو حنيفة رحمه اللهُ تعالى كلِفًا، أي محِبًّا، يحبُّ أن يقتنص وُدَّ الناس، والنبيُّ عليه الصلاة و السلام هكذا يقول، فرأسُ العقل بعد الإيمان التَّودُّدُ إلى الناس، وكان حريصًا على استدامة صداقتهم، فقد عُرِف عنه أنه ربَّما مرَّ به الرجلُ من الناس فقعد في مجلسه من غير قصدٍ و لا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كانت به فاقةٌ وصله، وإن كان به مرضٌ عادة، و إن كانت له حاجةٌ قضاها، حتى يجُرَّه إلى مواصلته جرًّا، هذه هي الأخلاق، فإذا جلس شخصٌ معك اِسألْ عنه، و عن عمله، لعلَّه يحتاج إلى مساعدة، و لعلَّه مريضٌ، و الدواء عندك، لعلَّه يحتاج إلى معونة، إلى تخفيف، إلى تصبير، فالإنسان حينما يلتقي مع الناس يصبح لهم عليه حقٌّ، فكان هذا الإمام العظيم في جلسةٍ طارئة عابرةٍ غير مقصودة إذا التقى مع شخص عرَضًا سأل عنه، ما اسمُه، و ماذا يعمل، و أين يسكن، فإن كانت به فاقةٌ وصَله، أو فقيرًا أعطاه، و إن كان به مرضٌ عاده، و إن كانت له حاجةٌ قضاها، حتى يجرَّه إلى مواصلته جرًّا، حتى يصير من إخوانه بهذه الطريقة، و قد كان أبو حنيفة قبل ذلك كلِّه و فوق ذلك كلِّه صوَّام النهار، قوَّام الليل، خديمًا للقرآن، أي صديقًا، مستغفرًا بالأسحار، و كان من أسباب توغُّله في العبادة و اندفاعه فيها له قصة، فقد أقبل ذات يوم على جماعة من الناس فسمعهم يقولون إن هذا الرجل الذي ترونه يقوم الليل فما أنْ لمست كلمتهم هذه أسماعَه حتى قال: إني عند الناس على خلاف ما أنا عند الله، واللهِ لا يتحدث الناسُ عني شيئاً إلا بما أنا فيه، أي مدحوه، قالوا: هذا الرجل يقوم الليل، وربما كان يقوم الليل، لكنْ ليس دائماً، فآلمه أن يكون هذا الوصفُ غير مطابق للحقيقة، عندئذٍ انطلاقاً من هذا المدح تابع قيامَ الليل حتى آخر حياته، وكان إذا أرخى الظلامُ سُدولَه على الكون، وأسلمتْ الجنوبُ إلى المضاجع، والناسُ كلُّهم نائمون، قام فلبس أحسنَ ثيابه، وسرَّح لحيتَه، وتطيَّب وتزيَّن، ثم وقف في محرابه يقطع أطراف الليل في الصلاة و الركوع والقنوت والسجود، وربما قرأ السورةَ الطويلة في الركعتين و ربما قام الليل كلَّه بآية واحدة يُعيدها و يبكي، ويُروَى أنه قام الليلَ كلَّه مرةً وهو يردِّد قولَه تعالى:
﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾
وكان أحياناً يصلي الفجرَ بوضوء العشاء، و كان إذا قرأ سورة الزلزلة اقشعرَّ جلدُه ووجِل فؤادُه، وأخذ لحيتَه بيده، وطفِق يقول: يا مَن يجزي بمثقال ذرَّة خيرٍ خيرًا، ويا من يجزي بمثقال ذرة شرٍّ شرًّا، أجِرْ عبدَك النعمانَ من النار، وباعدْ بينه وبين ما يقرِّبه منها، و أدخله في واسع رحمتك يا أرحم الراحمين.
تحلي أبي حنيفة بقوة إقناع عجيبة :
دخل أبو حنيفة النعمان على الإمام مالك و عنده ثُلَّةٌ من أصحابه، فلما خرج من عنده التفت الإمام مالك لجلسائه و قال: أتدرون من هذا؟ قالوا: لا، قال: هذا النعمانُ بن ثابت، هذا الذي لو قال عن هذه السارية - العمود - إنها ذهبٌ لاحتجَّ لِما قال، ولخرجتْ كذلك، أي عنده قوّة إقناع عجيبة، لو قال لك: هذه السارية من ذهب لجاء بالدليل، وأيقنتَ أنها من ذهب.
كان في أهل الكوفة رجلٌ ضالٌّ، وكان ذا قدرٍ في عيون بعض الناس، وصاحبَ كلمة مسموعة لديهم، كان هذا الرجل الضال يزعم فيما يزعم أن عثمان بن عفان رضي اللهُ عنه كان يهودياً، يُروِّج في المدينة أن هذا الصحابي الجليل ثالث الخلفاء الراشدين كان يهوديًا، وأنه ظلَّ على يهوديته بعد الإسلام أيضاً، فلما سمع أبو حنيفة مقالَته هذه مضى إليه، قال له: لقد جئتُك خاطبًا ابنتَك فلانةً لأحد أصحابي، فقال: أهلاً بك و مرحباً، إن مثلك يا أبا حنيفة لا تُردُّ له حاجةٌ، ولكن مَن الخاطب؟ قال: رجلٌ موصوفٌ بين قومه بالشرف و الغنى، سخيُّ اليد، مبسوط الكفِّ، حافظٌ لكتاب الله عز وجل، يقوم الليل، كثير البكاء من خوف الله، بخٍ بخٍ حسبُك يا أبا حنيفة، إن بعض ما ذكرتَ من صفات الخاطب يجعله كِفئًا لبنت أمير المؤمنين، فقال أبو حنيفة: غير أن فيه خصلة واحدة لا بدّ من أن تقف عليها، قال: وما هي؟ قال: إنه يهودي فانتفض الرجلُ و قال: يهودي؟ أتريد أن أزوِّج ابنتي من يهودي يا أبا حنيفة، و اللهِ لا أزوِّجها منه، ولو جمع خصال الأولين والآخرين، فقال أبو حنيفة: تأبى أن تزوِّج ابنتك من يهودي وتنكر ذلك أشدَّ الإنكار، ثم تزعم للناس أن رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم زوَّج ابنتيه كلتيهما من يهودي، فدُهِش الرجل وأخذته رِعدةٌ، واستغفر اللهَ من قوله هذا قول السوء، و تاب إلى الله فوراً، لقد عالجه علاجاً واقعيًا.
أحد الخوارج، وهو الضحَّاك جاء إلى أبي حنيفة ذات يوم، و قال: تُبْ يا أبا حنيفة، فقال: مِمَّ أتوب؟ قال: من قولك بجواز التَّحكيم الذي جرى بين عليٍّ و معاوية، هذا التحكيم باطل، و من قبِله فهو كافر، فيجب أن تتوب منه، فقال له أبو حنيفة: ألا تقبل أن تناظرني في هذا الأمر- أتحبُ أن نتناقش -؟ قال الخارجيُّ: بلى، فقال أبو حنيفة: فإن اختلفنا في شيء مما نتناظر فيه فمن يحكم بيننا؟ فقال الخارجي: حكِّمْ مَن تشاء، فالتفت أبو حنيفة إلى الرجل من أصحاب الخارجي كان معه، و قال: أنت أيها الرجل اُحكمْ بيننا إذا اختلفنا، ثم قال للخارجي: أنا رضيتُ بصاحبك حكَماً، فهل ترضى به أنت؟ فسُرَّ الخارج و قال: نعم، فقال أبو حنيفة: ويْحك أتُجوِّز التَّحكيمَ لنفسك فيما شجر بيني و بينك و تنكره على اثنين من أصحاب رسول الله ؟! فانتهت المناقشةُ، حينما رضي معه هذا الخارجي بالتحكيم، وأقام عليه الحُجة.
ويروي العلماءُ أيضًا أنه جاءه خارجيان، و الخوارج كما عُرِف عنهم أنهم يكفِّرون بالصغيرة، أي إذا ارتكب المسلمُ صغيرةً يكفِّرونه بها، فدخلا عليه و شهرا عليه السيفَ، و قالا له: ما تقول في رجل زنى و فعل كذا و كذا، هل هو مسلم أم كافر؟ فإذا قال: مسلم قطعوا رأسَه، فقال: هذا الرجل الذي تتحدَّثون عنه أهو نصراني؟ قالوا: لا، قال: أهو يهودي؟ قالوا: لا، قال: فمَن هو؟ قالوا: هو مسلم، قال: قد أجبتم عن أنفسكم، أنتم أجبتم، نصراني؟ لا، يهودي؟ كلا، إذًا هو مسلم، هذا هو الجواب، هو مسلم إذًا، و ليس كافرًا.
ومن ذلك أيضاً أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لقِيَ طائفةً من الملحدين الذين ينكرون وجود الخالق جلَّ وعلا، فقال لهم: ما تقولون في سفينة مشحونة بالأثقال، مملوءة بالأمتعة والحمال، قد أحاطتها لُجَّةُ البحر بأمواج متلاطمة، وعصفت بها رياحٌ عاتية، غير أنها ظلَّت تجري هادئةً في طريقها المرسومة و تمضي مطمئنة إلى غايتها المعلومة، من غير اضطراب ولا خلل ولا انحراف، وليس على ظهرها ملَّاحٌ يُحكِم سيرَها، أو موجِّهٌ ينظِّم خَطوها، أفيصحُّ هذا في الفكر؟ قالوا: لا، إن هذا شيءٌ لا يقبله العقلُ، و لا يجيزه الفهمُ أيها الشيخُ، فقال: يا سبحان الله تنكرون أن تجريَ السفينةُ في البحر جريًا مُحكمًا من غير أن يكون لها رُبَّانٌ يتعهَّدها و تقرُّون قيام هذا الكون ببحاره الزاخرة، وأفلاكه السائرة، وطينه السابح التارح، من غير صانع يُحكِم صنعته، ومدبِّر يحسن تدبيرَه؟ تبًّا لكم ولِما تأفِكون.
دفاع أبي حنيفة عن دين الله :
ويُروَى أن أبا حنيفة رحمه اللهُ تعالى بعد أن قطع رحلةَ الحياة كلَّها ينافِح عن دين اللهِ بما وهبه اللهُ من حُجَّة بالغة، و يجادل عن شرعه بما حباه الله من منطق فذٍّ، فلما أتاه اليقينُ وجدوا في وصيَّته، أنه عزم على أهله أن يدفنوه في أرض طيِّبة، وأن يجنِّبوه كلَّ مكان فيه شبهة غصبٍ، فالأرضٌ المغتصبة، وفيها مقابر، يقتضي الورَعُ ألاّ يُدفَن فيها الإنسانُ، فكان أبو حنيفة رحمه اللهُ تعالى قد أوصى أهلَه و عزم عليهم، أي شدَّد ألا يدفنوه في أرض مغتصبة، فلما بلغتْ وصيَّتُه المنصورَ قال: مَن يعذُرُنا في أبي حنيفة حيًّا و ميِّتًا؟ أي مات و لم نرتاح منه، ولقد أوصى أبو حنيفة بأن يتولَّى غسله الحسنُ بنُ عمَّارة، فلما غسله قال: رحمك اللهُ يا أبا حنيفة، وغفر لك جزاءَ ما قدَّمتَ، فإنك لم تفطِرْ، أي كان صوَّامًا في النهار، قوَّامًا في الليل، وقد أتعبتَ الفقهاءَ من بعدك، لذلك يقولون: كلُّ الفقهاء عالةٌ على أبي حنيفة، و يسمُّونه الإمامَ الأعظم، و المذهبُ الحنفي من أوسع المذاهب انتشاراً و من أكثرها مرونةً و دقَّة.
* * *
النميمة :
والآن إلى إحياء علوم الدين في موضوع خطيرٍ جدًّا ابتُلِيَ به المسلمون أو معظم المسلمين، ألا وهو النميمةُ، قال تعالى يصف النمّام:
﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾
قال عبد الله بن المبارك: الزنيم ولَدُ الزنا، الذي لا يكتم الحديث، وأشار به إلى أنَّ كلَّ من لم يكتم الحديث، ومشى بالنميمة دلَّ على أنه شبيهٌ بولد الزنا، أي ابن حرام، هذا الذي يفسد بين الناس، و بين الأحبَّة، وبين الإخوة، والشركاء، والأزواج، والجيران، وينقل حديث فلان إلى فلان، ويوغِر صدرَ الناس، ويوقع بينهم العداوةَ و البغضاءَ، ويقيم هُوَّةً كبيرة بينهم هذا عملُه مشابهٌ لعمل ولد الزنا تماماً. و العلماءُ قالوا: الزنيم هو الدَّعِي، أي ولد الزنا، و قال تعالى :
﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾
قيل: الهمزة النمَّام، وقال تعالى:
﴿وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴾
و معنى حمالة الحطب، أي كانت نمَّامة، أي تحمل كلاماً من جهةٍ إلى جهة، فتورِث بينهما العداوة والبغضاءَ، وكأنَّها أشعلت النار بينهم.
نقل الكلام بلية كبرى :
امرأة سيدنا لوط، وامرأة سيدنا نوح، قال تعالى في حقهما:
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ
﴿ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾
قيل: كانت امرأةُ لوط تخبر بالضِّيفانِ، فإذا جاءها ضيفانٌ لزوجها تخبر قومَها كي يأتوا ليفعلوا معهم الفاحشةَ، وامرأة نوح كانت تخبر الناس أنَّ زوجها مجنون :
(( وعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَنُمُّ الْحَدِيثَ فَقَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ*، و في حديث آخر، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ رَجُلًا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ))
و القتَّات هو النمام:
(( عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يُحَدِّثُنَا إِذْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا))
نقلُ الكلام بليةٌ كبرى، والمجتمع مفتَّتٌ على مستوى الأًسَر، والأحياء، والعشائر، ودائما هناك خصومات، ومشاحنات، والبغضاء بسبب نقل الكلام، وقال عليه الصلاة و السلام:
(( ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا بلى، قال: المشاءون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب ))
و قال عليه الصلاة و السلام:
((من أشاع على مسلم كلمة ليشينه بها بغير حق شانه اللهُ بها في النار يوم القيامة))
أشاع على مسلم إشاعة و هي باطلة ليحطِّم مكانته، ويجرح سُمعته بين الناس، قال عليه الصلاة و السلام:
((ما من رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بريء ليشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه بها يوم القيامة في النار ))
و قال عليه الصلاة و السلام:
(( من شهد على مسلم بشهادة ليس لها بأهلٍ فليتبوَّأ مقعده من النار ))
شهد شهادة غير صحيحة، و ليس متأكِّدا، تسرَّع واتَّهمه بالانحراف، وتسرَّع واتَّهمه بالغبن.
النّمام يفتت العلاقة بين الناس :
يُقالُ: إن ثلث عذاب القبر من النميمة، وعن ابن عمر عن النبيِّ عليه الصلاة و السلام أن الله تعالى لمَّا خلق الجنَّة قال لها: " تكلَّمي، فقالت الجنةُ: سعِد من دخلني، فقال اللهُ عز وجل: و عزتي و جلالي لا يسكن فيكِ نمَّامٌ و لا قاطِعُ رحمٍ" مستحيلٌ أن يدخل الجنةَ نمَّامٌ، أي إن الإنسانَ ينقل الكلام بين الناس ليفتِّت العلاقة.
و يقال: " اتَّبع رجلٌ حكيما سبعمئة فرسخٍ في سبع كلمات، فلما قدِم عليه قال: إني جئتُك للذي آتاك اللهُ من العلم، أخبِرني عن السماء و ما أثقلُ منها، و عن الأرض و ما أوسعُ منها، و عن الصَّخر و ما أقسى منه، و عن النار و ما أحرُّ منها، و عن الَّزمهرير و ما أبردُ منه، و عن البحر و ما أغنى منه، و عن اليتيم و ما أذلُّ منه، فقال الحكيمُ: البهتانُ على البريء أثقلُ من السموات و الأرض - تفتري على إنسان فِريةً باطلةً و هو منها بريء، و تُلبِسه تهمةً لا علاقة له فيها، هذا العمل أثقل من السموات و الأرض- و الحقُّ أوسعُ من الأرض، و القلبُ القانع أغنى من البحر، و الحِرصُ و الحسدُ أحرُّ من الجمر، و الحاجةُ إلى القريب إن لم تنجح أبردُ من الزمهرير، و قلبُ الكافر أقسى من الحجر، و النمَّامُ أذلُّ من اليتيم على مائدة اللئيمِ."
أراد إنسان أن يشتري عبدًا، فرأى عبداً ذكيًّا، وسعره رخيصاً، فلفت نظرَه السِّعرُ فقال البائعُ: هذا لا عيب فيه إلا النميمة، مشكلته أنه ينُمُّ، فاشتراه، فمكث الغلامُ أياماً، ثم قال لزوجة سيده: إن سيدي لا يحبُّكِ، وهو يريد أن يتسرَّى عليكِ، فخذي المُوسى واحلقي من رأسه شعرةً عند نومه، حتى أسحره عليها، فيحبُّكِ، ثم جاء للزوج و قال: إن امرأتك اتَّخذتْ خليلاً غيرَكَ، وتريد أن تقتلك، فتناوم لها حتى تعرف ذلك، فتناوم لها الزوجُ، فجاءت المرأةُ بالموسى فظن أنها تريد أن تقتله، فقام إليها فقتلها، فجاء أهلُ المرأة فقتلوا الزوجَ ووقع القتالُ بين القبيلتين بعلَّة واحدة فقط النميمة، أذهب بقبيلتين، فموضوع النميمة خطير جسيم.
وإن شاء اللهُ في درس قادم نتحدَّث عن النميمة بالتعريف الدَّقيق، وعن واجب المؤمن إذا سمع رجلاً ينِمُّ له أو عليه، كيف يقف منه موقفًا صلبًا. يُروى عن عمر بن عبد العزيز رضي اللهُ عنه أنه دخل عليه رجلٌ فذكر له عن آخرَ شيئًا- أي نمَّ- فقال له عمر: إن شئتَ نظرنا في أمرك ، فإن كنتَ كاذباً فأنت من أهل هذه الآيات، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾
و إن كنتَ صادقاً فأنتَ من أهل هذه الآية، قال تعالى:
﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ﴾
و إن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، و لا أعود إليه أبدًا، هذا موقف سيدنا عمر.